22‏/03‏/2012

استملاك المرأة هو أساس كافة العبوديات



ليس مصادفة أن تُبسَط أول سلطة قوية على المرأة بالذات. فالمرأة قوة المجتمع التنسيقي، والناطقة باسمه. وبدون تجاوزها، سيكون محالاً على البطرياركية إحراز النصر.

عبد الله أوجلان 
من الضروريِّ لَفت الأنظارِ جيداً لخاصيةٍ هامةٍ متمأسسةٍ في المجتمعاتِ المدينية، ويمكننا تسميتُها بحالةِ المجتمعِ المعتادِ على السلطةِ والمتآلف معها. إنه أَشبَهُ بإعادةِ تكوينِ المرأةِ بموجبِ تقاليدِ التأنيث  karılaşma، إذ، لا تتأكدُ السلطةُ من وجودِها قبلَ أنْ تَتَحَقَّقَ مِن إعدادِ المجتمع على غرارِ تأنيثِ المرأة. لقد تَمَأسَسَت ظاهرةُ التأنيث كأقدمِ مظاهرِ العبودية، حصيلةَ بسطِ نفوذِ المجتمعِ الجنسوي، بعدَ إلحاقِ الهزيمةِ بالمرأة - الأم وعباداتِها وطقوسها جمعاء بَعدَ صراعاتٍ محتدمةٍ ضاريةٍ وشاملةٍ طويلةِ الأمد على يدِ الرجلِ القوي الجبارِ وحاشِيَتِهِ. ولَربما رسَّخَ هذا النفوذُ المهيمنُ جذورَه في المجتمع حتى قَبلَ اكتمالِ تَطَوُّرِ الحضارة. إنه كفاحٌ عتيدٌ ومتواصلٌ لدرجةِ أنّ ثقافةَ المرأةِ - الأم قد مُحِيَت كلياً من الذاكرة، ولم تَعُد تَتَذَكَّر المرأةُ ما الذي خَسِرَتْهُ وأين وكيف فَقَدَته، وغَدَتْ تَعتَبِرُ الأنوثةَ الخانعةَ المنصاعةَ أمراً طبيعياً. ولهذا السببِ بالذات، لم تُشَرعَنْ أو تُهضَمْ أو تَتَجَذَّر أيةُ عبوديةٍ بقدرِ ما هي عليه عبوديةُ المرأة.
ولهذا التكوينِ نوعان من التأثيرِ الهَدَّامِ على المجتمع. أولُهُما؛ فَتحُ المجتمعِ أمام العبودية، وثانيهما؛ تسييرُ كافةِ أشكالِ العبوديةِ الأخرى تأسيساً على ظاهرةِ التأنيث. فالتأنيثُ ليس موضوعاً جنسوياً محضاً مثلما يُعتقَد، ولا يُعَبِّرُ عن خاصيةٍ بيولوجية. بل إنّ التأنيثَ في جوهرِهِ خاصيةٌ اجتماعية. فجميعُ المواقفِ والسلوكيات التي تُفيدُ برفضِ أخلاقِ الحرية، من قَبيلِ العبودية، الخنوعِ، تَحَمُّلِ وهضمِ الإهانة والاستحقار، البكاءِ، الاعتيادِ على الكذب والرياء، السماجةِ وانعدامِ الطموح، ومنحِ الذات وعرضِها؛ جميعُها تُعتبَرُ مِن مهنةِ الأنوثة الخانعة، وتُشَكِّلُ بجانبها هذا الأرضيةَ الاجتماعيةَ المنحطة، والوسطَ الأصليَّ للعبودية. كما أنها تُعَدُّ الأرضيةَ المؤسساتيةَ التي تتفَعَّل عليها كافةُ ضروبِ العبودية واللاأخلاقية وأقدمُها. والمجتمعُ المديني معنيٌّ ومرتبطٌ بانعكاسِ هذه الأرضية على كافةِ الفئات الاجتماعية. فتأنيثُ المجتمعِ برمته ضرورةٌ حتميةٌ لسيرِ النظام القائم. والسلطةُ تعادلُ الرجولة، إذن، والحالُ هذه، لا ملاذَ من تأنيثِ المجتمع. فالسلطةُ لا تعترفُ بمبدأِ الحريةِ والمساواة، وإلا، فلا يمكنها أنْ تَكُون. بالتالي، فالتشابهُ بين السلطةِ والمجتمعِ الجنسوي جوهريُّ الطابع.
يجب التحدث، وبأهمية بالغة، عن القمع والتبعية التي طبقها العجائز الخبيرون في المجتمع الهرمي على الشبان اليافعين. فهذا الموضوع المدرَج في العلوم الأدبية المسماة بـ"الجيرونتوقراطيا Jerontokrasi"*، إنما هو حقيقة واقعة. لكن، وكيفما تعزِّز الخبرةُ صاحبَها العجوز من جهة، فإنَّ كِبَر سنه يُضعِفه تدريجياً من الجهة الثانية. فرضت هذه الخاصيات على العجائز المسنين أن يُسخِّروا الشبان في خدمتهم. فقاموا بغسل أدمغتهم ليطوروا هذه الآلية، ويربطوا كل حركات الشبان بأنفسهم. تستمد البطرياركية قوة عظمى من هذه الظاهرة. فهم يستثمرون القوى الجسدية الغضة، ليحققوا من خلالها آمالهم وطموحاتهم. استمرت هذه التبعية المحيقة بالشبان حتى راهننا، مع تجذرها المتواصل. ليس من السهل هدم عُلوية وتفوق الأيديولوجيا والخبرة. يتأتى مصدر تطلع الشبيبة إلى الحرية من هذه الظاهرة التاريخية. إذ لا تُزَوَّد الشبيبة بالأقسام الحساسة والحرجة من المعلومات الاستراتيجية. والحال هكذا منذ عهد الحكماء المسنين القدامى، وحتى رجال العلم ومؤسساتهم في راهننا. بل ما يُمنَح إياها ليس سوى معلومات مخدِّرة ومؤمِّنة لسيرورة تبعيتها. وحتى إذا مُنِحَت المعلومات، فلا تُمنَح أدوات تطبيقها. فالتسويف والإمهال الدائم هو تكتيك إداري ثابت لا يتغير. هذا علاوة على أن الاستراتيجيات والتكتيكات وأنظمة القمع والاضطهاد والدعاية السياسية المطبقة على المرأة، سارية المفعول على الشبيبة أيضاً. تنبع رغبة الشبيبة وطموحها الدائم إلى الحرية من حالة القمع الاجتماعي الخاصة تلك، وليس من حدود عمرها الجسدي. أما مصطلحات "الثمِل، السكران، المراهق الغِرّ القليل التجربة"، فهي ألفاظ دعائية أساسية مبتَكَرة للحط من قدر الشبيبة. كما أن ربطها بالغرائز الجنسية على الفور، وجذبها إلى التمرد والعصيان، وإتْباعها بالدوغمائيات الحفظية والمتصلبة؛ يرتبط بعملية إعاقة تَوَجُّه طاقاتها الكامنة نحو النظام القائم، بغرض توطيده وتجذيره. عليّ التذكير ثانية بأن الشبيبة ليست حدثاً جسدياً، بل اجتماعي. طبقاً لما هي عليه المرأة التي تشكل ظاهرة اجتماعية، لا جسدية. وتتمثل المهمة الأولية لعلماء الاجتماع في الغوص في منابع هذه التحريفات المحيطة بهاتين الظاهرتين، وكشف النقاب عنها وفضحها.
هذا ويجب تناول الأطفال أيضاً ضمن هذا الإطار. فمن يأسِر المرأة والشبيبة، يُعتَبَر مُدرِجاً الأطفالَ أيضاً في نطاق نظامه كما يشاء، وإن بشكل ملتوٍ. يحظى تسليط الضوء على الجوانب الانحرافية المفرطة لتقربات المجتمع الهرمي والدولتي إزاء الأطفال بأهمية قصوى. فالعجز عن تدريب الأطفال وتنشئتهم على نحو صحيح وسليم، بسبب تربية الأم، يجعل سياقهم الاجتماعي اللاحق برمته منحرفاً، وضرباً من الكذب والخداع. ويتأسس نظام تعليمي معني بالأطفال، مرتكز إلى القمع والمخادعات الأعظمية. وتُبذَل المحاولات من قِبَل النظام السائد لتطبيق التبعية عليهم بشتى الأساليب المتنوعة، منذ المهد. المقولة التي مفادها "ما تكون عليه في السابعة، هو أنت في سن السبعين"، إنما تشيد بهذه الحقيقة. إذ يُترَك التقرب الحر للمجتمع الطبيعي كمجرد خيال ووهم لدى الأطفال، بحيث لا يُؤذَن لهم إطلاقاً بإحياء خيالاتهم تلك. إن تنشئة الأطفال وفقاً للخيالات الطبيعية من أسمى المهام وأنبلها.
لا يمكن رؤية اكتساب العلاقة البطرياركية للقوة بعين الضرورة الحتمية. علاوة على أنها ليست انطلاقة شفافة، وكأنها من دواعي القانون. بل تستلزم هذه العلاقة التركيز عليها بدقة وعناية، باعتبارها تشكل المرحلة الأساسية على الدرب المؤدية إلى التمايز الطبقي والتدوُّل. إن كون العلاقات الملتفة حول المرأة الأم على شكل تعاضد منسق ومنظم، أكثر مما تكون علاقة قوة وسلطة؛ إنما يتطابق مع جوهر المجتمع الطبقي، ويتواءم وإياه. وهي لا تشكل انحرافاً، كما أنها منغلقة إزاء سلطة الدولة. وانطلاقاً من تكوينتها التنسيقية التنظيمية، فهي لا ترى حاجة للجوء إلى العنف أو الرياء. توضح هذه النقطة أيضاً أسباب كون الشامانية ديناً ذكورياً. وإذا ما تفحصنا الشامانية عن كثب، سندرك أنها مهنة يغلب عليها إظهار القوة والتضليل. حيث تُجهَّز القوة والميثولوجيا بدقة حاذقة، بغرض السلطة التي سيتم بسطها بمكر ودهاء على شفافية المجتمع الطبيعي. ويغدو الشامان امرؤً يتجه ليكون راهباً ورجل دين. وتتجه العلاقات مع الأسلاف المسنين إلى تكوين التحالف معهم. ذلك أنها بحاجة ماسة لرجال الصيد الأشداء في سبيل بسط الهيمنة التامة. وتكون المجموعة الأكثر ثقة واعتداداً بقوتها وكفاءاتها هي القابلة للتحول إلى النواة العسكرية الأولى. وتتراكم القيم والمهارات تدريجياً في يد هذا الثلاثي. وتُفرَّغ أطرافُ المرأة الأم رويداً رويداً، بكل مكر ودهاء. ويدخل النظام الأهلي دائرة الرقابة بالتدريج. فبينما كانت المرأة تمثل القوة المؤثرة على الرجل، وصاحبة القول الفصل؛ تندرج بعدئذ – وبالتدريج – تحت نفوذ السلطة الجديدة.
ليس مصادفة أن تُبسَط أول سلطة قوية على المرأة بالذات. فالمرأة قوة المجتمع التنسيقي، والناطقة باسمه. وبدون تجاوزها، سيكون محالاً على البطرياركية إحراز النصر. بل وأبعد من ذلك، لن تنتقل إلى مؤسسة الدولة. لذا، فتخطي قوة المرأة الأم يحظى بأهمية استراتيجية. وبموجب المعطيات والمعلومات التي بين أيدينا، ندرك أن تلك المرحلة شهدت مشقات عصيبة للغاية، تماماً مثلما شوهد في الدلالات والبيِّنات السومرية. ما ينعكس على الديانات التوحيدية هو أن عامل المرأة الممثَّلة في "ليليت – حواء" يصوِّر سمات تلك المرحلة بأكثر الأشكال لفتاً للنظر. فبينما تكون "ليليت" المرأة الأبية التي لا تخنع، تصوِّر "حواء" المرأة المستسلمة. ووصل الأمر مرتبة غدت فيها مزاعم خلق المرأة من ضلع الرجل معياراً تقاس به تبعيتها. ومن جانب آخر، فإغداق المرأة بالكثير من اللعنات والافتراءات (ممثَّلة في ليليت)، ونعتها بالجنّيّة الشريرة والمومس، وبرفيقة الشيطان وغيرها مما شابه من الشتائم والمسبات الكبرى الموجودة؛ كل ذلك برهان قاطع على وجود احتدامات ومنازعات ضارية آنذاك، ومؤشر على تلك الثقافة والأفكار والعقائد التي سادت آلافاً من السنين. 
لا يمكننا استيعاب السمات الأولية لثقافة المجتمع الذكوري المهيمن اللاحق لتلك المرحلة، أو تفهمها على نحو صحيح، ما لم نحلل الانقلاب الاجتماعي الحاصل إزاء المرأة. وحينها يستحيل حتى التفكير بكيفية حصول التكون الذكوري الاجتماعي أيضاً. وبدون إدراك التكون الاجتماعي للرجل، من المحال تحليل مؤسسة الدولة، أو صياغة تعريف سليم لثقافة "الحرب" و"السلطة" ارتباطاً بالدولة. إن الدافع وراء تركيزنا المكثف على هذا الموضوع هو تسليط الضوء على حقيقة الشخصيات الربانية (الإلهية) الفظيعة، وعلى كل حدودها واستعماراتها ومذابحها المرتكبة؛ والتي لم تكن سوى حصيلة لكافة التمايزات الطبقية الظاهرة بعد تلك المرحلة. فإذا ما نظرنا إلى لعنة الإنسانية (السلطة السياسية، الدولة) بعين براديغمائيتها المقدسة، ستتحقق حينها أقذر ثورة مضادة للعقلية الإنسانية. وهذا ما حصل فعلاً. أما تسمية ذلك بالمؤثر الضروري لأجل التقدم، فتُعَد أخطر الثورات المضادة، بما فيها الماركسية أيضاً. لذا، إنْ لم نمرِّر التاريخ من مصفاة النقد بشكل أكيد، ولم نصحح مساره من هذه الزاوية؛ فإن أية ثورة ستقوم، لن تنجو من التحول إلى ثورة مضادة، وخلال فترة وجيزة. 
مع انهيار عالم المجتمع الطبيعي للمرأة أولاً، ومن ثم الشبيبة والأطفال، وتأسيس الهرمية المعتمدة على القوة والخداع (الميثولوجيا)، وتسليطها عليهم؛ يتحول ذلك إلى شكل مهيمن للمجتمع الجديد. في حين يتزامن ذلك مع تصاعد ثورة مضادة جذرية أخرى، حيث تبدأ مرحلة التضاد مع الطبيعة، والتوجه نحو تدميرها وتخريبها. إن الاعتقاد باستحالة العيش والتطور من دون وجود أنموذج القتال وممارسة الصيد، ليس بفرضية ذات أصل. فالحيوانات غير المتغذية على اللحوم أكثر عدداً بآلاف الأضعاف من تلك التي تقتات على اللحوم. أي أن عدد الحيوانات آكلة اللحوم قليل جداً. وإذا ما تمعنا في أغوار الطبيعة، سنجد أن غطاء وفيراً من الأعشاب والنباتات تَكَوَّن أولاً لتلبية احتياجات الحياة الحيوانية. والتطور الحيواني هو محصلة للتطور النباتي. هكذا هي العلاقة الجدلية. ذلك أنه ما من وجود لحيوان يأكله الحيوان الأول الظاهر. فهو يقتات على الأعشاب. إذن، يتوجب النظر إلى التغذية على اللحم بعين الانحراف. فلو أكلت كل الحيوانات بعضها بعضاً، لما تكوَّن نوع حي منها. إنه تطور مناقض ومنافٍ لقوانين التطور الطبيعي. تظهر الانحرافات من الميول الأساسية المتواجدة في الطبيعة في كل الأزمان، ولكن إذا ما عملنا على اعتبارها أساساً، وأسقطناها على نوع ما في الطبيعة، فسينقرض ذاك النوع وينضب. والتعبير الأكثر إشادة بهذه الظاهرة – بشرط ألا يكون اجتماعياً – هو الحالة المعاشة في الذين يتميزون بجنسية ثنائية (أخنث). فإن أضحى جميع الناس أخناثاً، أي ذوي جنسية ثنائية (وهذا ما يعني ممارستهم علاقة اللواط)؛ فسينضب نسل الإنسان تلقائياً. إن هذا التعليل المقتضب كفيل بما فيه الكفاية للإشارة إلى التشوه والضلال الناجم عن التطور الاجتماعي المرتكز إلى ممارسة الصيد والقتال. لثقافة القتل نتائج معنوية أشد وطأة مما هي عليه من الناحية المادية.
فالجماعة التي تحوِّل قتل الحيوانات وأبناء جنسها إلى طراز في حياتها – عدا الدفاع الاضطراري عن الذات – ستقوم بتأسيس كل أنواع الأنظمة الآلاتية أو المؤسساتية في سبيل تطوير آليات الحرب. ولدى إعداد الدولة كقوة أساسية، ستُختَرَع سهام الحرب، ورماحها وفؤوسها، وستُطوَّر على أنها أثمن الأدوات والوسائل. إن تطور المجتمع الأبوي من أحشاء المجتمع الأمومي الطبيعي، وتناميه كأخطر انحراف في التاريخ، إنما يعبر عن مضمون أشكال القتل والاستعمار الفظيعة الممارسة على مر التاريخ وحتى راهننا. هذا التطور، دعك من أن يكون قدراً محتوماً أو شرطاً ضرورياً لأجل التقدم، بل هو انحراف وضلال، بكل ما للكلمة من معنى. إنه أشبه بمَلَكية الأُسُود. كما يشبه الجدلية القائمة بين الأفعى والفأر. إنَّ نعت نظريات الدولة – منذ هذه اللحظة – بنظرية "الأفعى – الفأر" سيكون تفسيراً أدنى إلى الصواب. فأغلب الرجال تكون كنيتهم "الأسد"، حيث ثمة تَحَسُّر وتَوق كبير لأن يكونوا كذلك. ولكني أتساءل: "كي يفترسوا من؟".
يمثل التنظيم العسكري الذروة التي تبلغها ثقافة الصيد والحرب. ويتطور هذا التنظيم كلما تبعثر المجتمع الطبيعي والإثني. وبينما يُطوِّر التنظيم الملتف حول المرأة الأم علاقات النَّسَب والجِينات والقرابة، يتخذ التنظيم العسكري من الرجال الأشداء المنقطعين عن هذه العلاقات أساساً له. وغدا يقيناً أنه ما من شكل للمجتمع الطبيعي يمكنه الوقوف في وجه هذه القوة، حيث تدخَّل العنف الاجتماعي – يمكن تسميته أيضاً بالعلاقة المدنية – في العلاقات الاجتماعية. والقوة المعيِّنة هي أصحاب العنف. هكذا تُفتَح الطريق أمام المُلكية الخاصة أيضاً. يمكن الاستيعاب أن العنف يتخفى في أساس المُلكية. والاستيلاء بالعنف وسفك الدماء، يعزِّز عاطفة الـ"أنا" بشكل مفرط. إذ لا يمكن تطوير وسائل العنف وتطبيقها، دون وجود التحكم والهيمنة على العلاقات. أما الهيمنة والتحكم، فمنوطان بدورهما بالتملُّك. وهي علاقة جدلية. والتملك هو لُبُّ كل الأنظمة المُلكية. شُرِعَت الأبواب أمام مرحلة يُنظَر فيها بعين المُلك للجماعات والمرأة والأطفال والشبيبة، ولمناطق الزراعة والصيد المعطاءة أيضاً. ويقوم الرجل القوي بانطلاقته الأولى بكل هيبته وجبروته. بقي القليل على تحوله إلى الإله المَلك. وما برح الشامانيون الرهبان يشرفون على الشؤون لتكوين ميثولوجيا العهد الجديد. وما يلزم عمله هو، ترسيخ هذا التكوين الجديد في عقل الإنسان المستحكَم على أنه تطور عظيم ومهيب. فحرب إضفاء المشروعية عليه، تستلزم تفنُّناً ومهارة في الجهود، بقدر تطلبها العنف الفظ بأقل تقدير. يجب توطيد عقيدة في عقل الإنسان، وكأنها القانون المطلق. كل المعطيات السوسيولوجية تشير إلى أنه تم بلوغ مصطلح "الإله الحاكم" في هذه المرحلة.  لم يكن ثمة علاقة تحكم في العقيدة "الطوطمية" المرافقة للمجتمع الطبيعي. فهي علاقة مقدسة ومسَلَّم بها كرمز للكلان. وكيفما تكون حياة الكلان، هكذا يُصوَّر اصطلاحها الرمزي. لا يمكن التفكير بإمكانية العيش دون الامتثال الصارم لحياة وضوابط التنظيم الكلاني. وبالتالي سيُعتَبَر الطوطم مقدساً ومحصَّناً، باعتباره التصوير الأسمى والأرقى لوجود الكلان، ويجب احترامه وتبجيله. أما المادة التي يتكون منها، فيتم اختيارها من أكثر أنواع الحيوانات أو النباتات أو الأشياء نفعاً. فأي مادة في الطبيعة تزوِّد الكلان بالحياة وتؤمِّنها له، سيُعتَقَد بها، وستُعتبَر رمزاً (طوطماً) لذاك الكلان. وهكذا فديانة المجتمع الطبيعي في تكامل واتحاد مع الطبيعة. وهي ليست مصدر خوف أو ورع، بل عامل تعزيز وتوطيد، تُكسِب المرءَ الشخصية وتمده بالقوة. 
في حين أن الإله المُعلى من شأنه في المجتمع الجديد تخَطَّى الطوطم وموَّهه. فقد بُحِث له عن مكان يقطنه في ذرى الجبال، وقيعان البحار، وفي كبد السماء. وبدأ الحديث عن القوة الحاكمة. كم يشبه ذلك طبقة الأسياد المتولدة حديثاً! فأحد أسماء الإله في كتاب "العهد القديم" – وبالتالي في الإنجيل والقرآن – هو "الرب"، أي السيد. أي أن الطبقة الجديدة تنشأ وهي تؤلِّه ذاتها. ومن الأسماء الشهيرة الأخرى "أل، ألوهيم"، ويعني "العلو". وهو يُبَشِّر بالسَّلَف (أو بالشيخ) المتسامي على قبائل الصحراء.  تتسم ولادة البطرياركية (نظام السلطة الأبوية) وولادة الإله الجديد بتداخل مثير للغاية، في كافة الكتب المقدسة. هكذا هي الحال في "إلياذة" هوميروس، وفي "رامايانا" الهند، وفي "كالاوالا" الفينليين. وبدون تأمين مشروعية المجتمع الجديد وتوطيدها في العقول، من الصعب له أن يجد فرصته في الحياة. ذلك أنه من المحال إدارة أية وحدة في المجتمع الموجَّه، ما لم يتم إقناعها بالمطلوب. فتأثير العنف في شؤون الإدارة لحظي، ولا يؤمِّن القناعة الراسخة. ومثال السومريين في التاريخ مثير حقاً، ويستحق التمحيص والتدقيق، لتضمنه ذلك كأول أصل مدوَّن في حوزتنا. فخلْق الإله لدى السومريين خارق للغاية. نخص بالذكر هنا انهيار الإلهة الأم، ونفوذ الإله الأب محلها، حيث يشكل صُلْب كافة الملاحم السومرية. فالصراعات المضطرمة بين إينانا وأنكي، بين ماردوخ وتيامات، تحتل مكانها في ملاحمهم، من البداية وحتى النهاية. والإمعان السوسيولوجي في هذه الملاحم، التي انعكست على جميع الملاحم والكتب المقدسة اللاحقة؛ يزودنا بمعلومات عظمى. ليس هباء أن يتم البدء بالتاريخ من السومريين. فتحليل الأديان، الملاحم الأدبية، القانون، الديمقراطية، والدولة اعتماداً على لوحات ولُقى السومريين المدوَّنة؛ قد يكون أحد الدروب الأقرب إلى الصواب، والمحفِّزة على إحداث الانطلاقة اللازمة لعلم الاجتماع. ربما تُعَد هذه الثورة المضادة، التي أقامتها العقلية الأبوية السلطوية، أكبر تحريف وتضليل شهده التاريخ. فقد أوغل الإنسانُ جذوره في عقلية المجتمع لدرجة لا نفتأ اليوم عاجزين حتى عن التفكير بتخطي تأثيراتها. الرهبان السومريون لا يزالون يحكموننا. فمؤسسات الدولة التي أوجدوها، والآلهة التي صوَّروها وكوَّنوها كتعابير مشروعة، لا تنفك تحكمنا اليوم بهيبة لا يسعنا فتح عيوننا أمامها. وتتحكم بوجهات نظرنا وبراديغمائياتنا الأساسية كلها. وكأن مقولة "آلبرت آينشتاين": "إن قوة التقاليد والعادات تضاهي ما يلزم لتفكيك الذرّة" قيلت بشأن هذه العلاقات على الأرجح. أفلا تستمر أضرس أشكال الحروب والاستعمار، بما لا تعرف السكون ولا الهوادة، وبما لا يتطابق وأي معيار إنساني، منذ ذاك الوقت وحتى الآن، في العراق، بلاد ما بين الرافدين دجلة والفرات، مهد الدولة وموطن الزقورات، وقصور الرهبان السومريين المقدسين! أَوَليست تلك المقولة تشيد بذلك؟ إذن، دعك من أن يكون المجتمع الأبوي السلطوي وتدوُّله لخير البشرية وصالحها، إنه أكبر بلاء مسلَّط عليها. فهذه الوسيلة الجديدة ستدمر ما حولها كي تكبر وتتضخم، كالكرة الثلجية حيناً، وكالكرة النارية أحايين أخر؛ لتحوِّل كوكبنا الأقدس على الإطلاق إلى حالة لا يطاق المكوث فيه. يشبِّه كتاب "العهد القديم" ظهور الدولة بظهور "اللوياثان"* من أعماق البحر. وهذا ما مؤداه أن الكتاب المقدس قد ثبَّت أعظم حقيقة، في جانب من جوانبه. ويتم التطرق فيه على الدوام إلى المخاوف الكبرى للتغلب على "اللوياثان"، فيقول: إذا لم نتحكم به ونكبح جماحه، فسوف "يفترس الجميع!".
حسبَ رأيي، سيَكُونُ مِن الأنسبِ إطلاقُ تسميةِ المجتمعِ المشاعيِّ – الأمومي على هذه السلسلةِ المتواصلةِ من المراحل، التي طالما سَمَّتها أغلبُ العلومِ الاجتماعية بالنظامِ المشاعيِّ البدائي، أو العصرِ الحجريِّ القديم، أو العصرِ الحجريِّ الحديث، أو بالنظامِ الوحشي. إنها حقبةٌ تَكادُ تَحتَلُّ 99% من مجموعِ سلسلةِ حياةِ المجتمعِ البشري. يجب عدم الاستخفافِ بها البتة. ومقابلَ تراكمِ فائضِ الإنتاجِ والقِيَمِ الثقافيةِ الأخرى في أحشاءِ المجتمعِ المشاعي الأمومي، لن يَكُونَ من العسيرِ استخلاصُ النتيجةِ القائلةِ بأنّ الرجلَ القويَّ الماكرَ والمتجولَ دائماً في أطرافِ ذاك المجتمعِ عَاطِلاً، فيما خلا بعض جولاتِ الصيد المظفر، والتي تمده بالقوةِ تدريجياً؛ قد تَوَجَّهَ نحوَ النزوعِ لِبَسطِ أولِ هيمنةٍ على هذا النظامِ الاجتماعي. وثمةَ الكثيرُ من المَعالِمِ الأنثروبولوجيةِ والسجلاتِ الأثريةِ والملاحظاتِ والمقارَناتِ ووجهاتِ النظرِ التي تُرَجِّح كفةَ هذا الاحتمال.
كما تَطَرَّقنا بِكَثرة إلى التكوينِ ذي الطابعِ الرجولي الغالب على المجتمعِ الأبوي البطرياركي، والمؤلَّفِ من الشامان + الشيخِ العجوز المُجَرِّب + القائدِ العسكري. من الأصحِ البحثُ في هذا التطورِ الحاصلِ عن نموذجٍ أوليٍّ لشكلِ المجتمعِ الجديد. قَصَدُنا بالمجتمعِ الجديد هو حالةُ اكتسابِ الكلانِ للهرمية. وإفساحُ الهرميةِ الطريقَ أمامَ التحولِ الطبقي الراسخِ وتنظيمِ نمطِ الدولةِ الوطيد قد حسم هذا الانقسام. واضحٌ جلياً أنّ المجتمعَ المتعرفَ على الطبقةِ والدولةِ قد غَيَّر ماهيتَه. والديناميكيةُ الأساسيةُ في هذا التغيير هي إخراجُ فائضِ الإنتاجِ من كَونِه هدايا وعطايا، وتَبضِيعُه كسلعٍ للمقايضة، وجعلُه موضوعَ بيعٍ وشراءٍ في السوق. ومع دخولِ ثالوثِ السوقِ – المدينة – التجارة حَيِّزَ التنفيذِ كعنصرٍ ثابتٍ في المجتمع، تَسارعَت وتيرةُ التدولِ والتحولِ الطبقي وتضاعفَت. لن أُكَرِّرَ ثانيةً كيفيةَ جريانِ هذا التطور في الظروفِ الزَّمَكانية، نظراً لأننا عالجنا ذلك مِراراً. وعلى صعيدِ الشروحِ المتباينة، سَعَت مختلفُ العلومِ الاجتماعية للردِّ على هذا المجتمعِ الجديدِ بإطلاقِ العديدِ من التسمياتِ والاصطلاحات عليه، من قَبِيل: المجتمع الطبقي، مجتمع المدينة، المجتمع الدولتي، والمجتمعات العبودية، الإقطاعية، والرأسمالية. حسبَ رأيي، سَيَكُونُ من الأنسبِ تسمية تلك المراحلِ بـ"المجتمع المديني"، والاختزالُ أكثر وتسميتُها بـ"المدنية"؛ نظراً لأنّ الطبقيةَ والمدنيةَ والدولتيةَ ميزاتٌ بارزةٌ وراسخةٌ فيها، ولأنها نُعِتَت بالأغلب بصفاتِ "الحضارة" و"المدنية".
ينبغي ألا نَغفلَ عن أننا عندما نقولُ المدنية، فلا نُفَسِّرُها على أنها تعني السموَّ والتقدمَ على صعيدِ أخلاقياتِ المجتمع، بل ننعتها بماهيتِها الأساسيةِ المتمثلةِ في انحطاطِ الأخلاقياتِ وقمعِها. فالمجتمعُ المديني يعني السقوطَ المتهاويَ نِسبةً إلى أحكامِ القِيَمِ الأموميةِ المشاعية القديمة، أي نسبةً إلى مفاهيمِها الأخلاقية. وتَبرزُ هذه العلاقةُ بأسطعِ أشكالِها في اللغةِ السومرية، التي نَعلَمُ أنها اللغةُ الأقدم. فمفردةُ أمارگي Amargi تعني الحرية، وتعني العودةَ إلى الأمِّ والطبيعةِ على السواء. إنّ التعادُلَ المتطابقَ المُكَوَّنَ بين الأمِّ والحريةِ والطبيعةِ يشيرُ إلى وعيٍ سليمٍ ملفتٍ للنظر. فالمجتمعُ السومري، الذي يتعرفُ على المجتمعِ المديني لأولِ مرة، يشيرُ بكلمةِ أمارگي إلى حنينِه وشوقِه إلى المجتمعِ القديم الذي لم يَبتَعِد عنه كثيراً، أي المجتمعِ المشاعي الأمومي. إنّ متابعةَ هذا الانقلابِ الاجتماعي ضمن الأصل السومري أمرٌ ممكن، بل ومُنَوِّرٌ وملفتٌ للأنظار للغاية.



0 كۆمێنت:

إرسال تعليق