04‏/01‏/2012

ملاي جزيري (melayê cızîrî)

جزيري كان متأثراً بـ منصور الحلاج وابن العربي (محي الدين العربي) من الناحية الفلسفية. حيث دمج بين فلسفة وحدة الوجود العائدة لهؤلاء والصبغة الأدبية لدى الكرد.
حسين شاويش
مثل الغالبية العظمى للأدباء الأكراد، هناك آراء متضاربة حول مولده ووفاته. والسبب في هذا التضارب برأينا، هو عدم الاهتمام بالأدب والأدباء الكرد حتى الأوقات المتآخرة تقريباً (نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تقريباً).
ولكننا رغم هذه الآراء المتضاربة وصلنا إلى الأصح منه بفضل كتاب العقد الجوهري للشيخ الجزري العائد لملا محمد زفنكي وهو يستحق كل الاحترام والتقدير لشرحه لأشعار جزري الموجودة في هذا الكتاب. ولد جزيري في مدينة جزيرة بوطان (cızîra Bota) سنة 1570م وتوفي سنة 1645 عن عمر يناهز 75 عاماً. اسمه الحقيقي ملا أحمد، جدير بالذكر بأن كلمة ملا عند الأكراد لا تعني فقط رجل الدين (الإمام) بل يعني المعلم أيضاً (أي ماموستا باللغة الكردية). لأن الملالي كانوا يعلمون التلاميذ (فقهَ) في المدارس الدينية ـ الأدبية. ولم تكن هناك مدارس أخرى في كردستان غير هذه المدارس.
ينتمى الجزيري إلى العشائر البهتانية (البوطانية)، وتعلم على يد أبيه الشيخ محمد. وأخذ شهادته من ملا طه الذي كان يُدَرسُ في قرية ستراب التابعة لمنطقة ديار بكر (آمد). وكما تلقى علومه الدينية والأدبية في مدارس هكاري ووان وآميديةِ (العمادية). لذا حصل على تراكم ديني وأدبي وفلسفي بفضل تعلقه بالعلم والعرفان. بعد أن مارس مهنة "الملا" في كثير من الأماكن، تعمق في مسألة البحث عن الحقيقة وتحول إلى زاهد مرتبط بالعشق الإلهي (عشق الحقيقة). أي بتعبير آخر، ترك العبادة الظاهرية (الشكلية) ودخل في البحث عن العبادة الباطنية (الزهدية، المستيكية، الفلسفية). وبعد وفاته تم دفنه في "مدرساسور" أي المدرسة الحمراء، وهي نفس المدرسة التي درس فيها قبل وفاته في جزيرا بوطان. تناول جزيري مسألة العشق على أرضية معنوية فقط. وهو يراها طريقاً للوصول إلى حقيقة الكون والإنسان والإله بعيداً عن الغايات المادية للحياة. وهو يرى في العشق أسمى وأعظم شيء في الوجود. وقد عبر عن ذلك في أحدى أبياته المكتوبة حول فرهاد وشيرين وملك إيران برويز على الشكل التالي:
" tenê Ferhad dızanıt lezetê eşqê
Ku wî can daye şêrînê ne perwîz"
أي يعني مايلي: "لوحده فرهاد يعرف لذة العشق،
لأنه أعطى روحه لـ شرين وليس برويز."
وهو يريد أن يقول بأن الملك الإيراني برويز لايعرف العشق ولا يستطيع تمثيلها، بل أن فرهاد الذي ضحى بروحه وجسده (كلمة جان الكردية تعني بالمعنى الواسع للكلمة كل ما يملكه الإنسان) من أجل شرين محبوبته وزوجة الملك برويز. لأن برويز إقتراب من شرين على أساس الشهرة والثروة والسلطة والشهوة، بينما فرهاد اقترب منها على أساس المعنويات والعاطفة الإنسانية والمحبة الأفلاطونية.
يحاول جزيري الإشارة على الحقيقة المثلى في مرات عديدة وبشكل متكرر، لأنه يبحث عنها في حياته العملية والفكرية. وهو يقول مايلي حول هذه المسألة (بعد ترجمتها إلى العربية مباشرة): "كل من يريد أن يطهر باطنه لابد له أن يكون عاشقاً للحقيقة. مع أن الذين يعشقون الحقيقة يلتقون مع طريق الحق ويتنظفون باطنياً. والذين لا ينجحون في ذلك، سوف يعيشون مع أوساخهم أبدياً."
في الحقيقة لا يجد الإنسان حاجة إلى شرح هذه الأدبيات، لأنها واضحة وجلية. لقد ربط جزيري بين الحقيقة والإنسان الجيد النقي والغالي من كل الأمراض المعنوية والعقلية (مثل التكبر والأنانية والجهالة والارتباط المفرط بالماديات ... وإلى آخره.) ويرى في العشق سبيلاً إلى الخلاص والحرية والعطاء الإنساني ويرى في عكس ذلك، الانهيار والدمار الأبدي.
لقد اشتهر الجزيري في أدبه بالسلطة الدنيوية والمال والملك ولم يعيره أية قيمة في حياته، العملية والأدبية، بل وضع الحقيقة وعشقها فوق كل اعتبار مادي ودنيوي. وقد لفت الأنظار إلى هذه المسألة عبر هذين السطرين القليلة:
" mîrî û patîşahî mûyek lı nıg melayî
Nadım bı mılkê alem yek zere yek ınayet"
أي يقول: " الأميرية والباشاوية شعرة عند الملا،
لا أُغَيرُ بملك العالم ذرةٌ واحدة وعناية واحدة."
يقصد بالأميرية والباشاوية بسلطة الأثرياء والملوك الأرستقراطيين، وكما يقصد بكلمة "الملا" نفسه هو، وكما يقصد بالعناية الواحدة والذرة الواحدة بالعشق الإلهي أو العناية الإلهية والتي هي بنفس الوقت حب الحكمة (الفلسفة) والحقيقة المثلى. ويمكن القول بأن جزيري قد فَنَدَ إدعاءات البعض بحقه حول قربه للأمراء والأرستقراطيين وعدم اهتمامه بمشاعر الشعب الطبقية والقومية من خلال هذين السطرين. وقد قامت هذه الإدعاءات على أساس أن جزيري كان قريباً إلى المير (الأمير) شرف خان (أمير إقليم بوطان) ومدحه في شعره.
إن جزيري وضح حبه وتعلقه بوطنه كردستان عبر هذين السطرين من ديوانه:
Gulê baxê ıremê Buhtanım
Şeb çıraxê şabê kurdıstanım
أي بما معناه بالعربية: " أنا وردة حديقة إرم البوطانية،
أنا شمعة الليل في الليالي الكردستانية."
إن جزيري جمع في شعره بين حبه لطبيعة وطنه كردستان وشغفه إلى وجود سلطة قوية سياسية فيها من خلال إعطاءه بعض الأهمية لإمارة شرف خان البوطانية. وعلى الأغلب إنه عاش في عهد الأمير شرف خان وعاشره بحكم وجوده في مدينة جزيرا بوطان (عاصمة الإقليم ومكان تخت شرف خان الإماراتية).
لقد سلم أمير الكرد أحمد خاني ملاي جزيري حقه إلى جانب حريري وطيراني. وأشار إلى روح جزيري الشعرية والأدبية أهميته عبر هذه السطور:
Ger dê hebûya me jî xwedanek
Alî keremet û letîfe danek
Ilm û huner û kemal ızan
Şıır û xezal û kîtab û dîwan
Ev cıns bıbûya lı ba wî meêmûl
Ev neqd bıba lı nık wî meqbûl
Mın dê elema kelamê mewzûn
Alî bıkıra lı banê gerdûn
Bı navê rıha melayê cızîrî
Pê hey bıkıra Elî Herîrî
Keyfek wê bıda Feqê Teyran
Heta bı ebed bı maya Heyran
ويعني مايلي بالعربية:
" لوكان يوجد لنا صاحباً،
علي الكرم ولطيف العطاء،
العلم والفن والمثالية والإذعان،
الشعر والغزل والكتاب والديوان،
كان معمولاً عنده بهذا النوع،
لو كان مقبولاً عنده هذا النقد،
لقمت برفع راية الكلام الموزون عالياً،
فوق سطح المعمورة،
لأحييت علي حريري،
بإسم روح ملاي جزيري،
ولأعطيت نشوة لـ فقة طيراني،
ظل معجباً بها إلى الأبد".
وقد أنتقد جزيري الكرد بسبب عدم إهتمامهم بأدبه بالشكل المطلوب بشكل مبطن ومجازي وحاول بذلك لفت الأنظار إلى الأدب الكردي بدلاً من التوجه إلى الأدب الإيراني الفارسي والتي تحولت إلى عادة لدى المثقفين الكرد في تلك الحقبة من الزمن بالسطرين التاليين من ديوانه:
Ger lûluek jı nezmê mensûr tu dıxwazî
Wer şıırê Melê bıxwîn te bı şîrazê çı hacet
أي بما معناه: "لو أردت لؤلؤة من النظم المنثور،
تعال وإقرأ أشعار الملا، لست بحاجة إلى شيراز."
يعني بـ شيراز مدينة شيراز الإيرانية، وخصوصاً سعدي شيرازي وحافظ شيرازي، وهو يرى بأنه كتب شيئاً يعوض الكرد من قراءة الأدب الإيراني ـ الفارسي.
إن جزيري كان متأثراً بـ منصور الحلاج وابن العربي (محي الدين العربي) من الناحية الفلسفية. حيث دمج بين فلسفة وحدة الوجود العائدة لهؤلاء والصبغة الأدبية لدى الكرد. وهو يشبه ابن الفارض (العربي) وفضولي (التركي) وحافظ الشيرازي (الإيراني) من ناحية دوره في الأدب الكردستاني الكلاسيكي.
إننا في هذا اليوم كأبناء لهذا الشعب الذي يتعرض إلى المذابح الثقافية فأننا مضطرين إلى معرفة نتاجات جزيري والآخرين من عظماء الأدب والثقافة الكردية، لأن مثل هذا الاهتمام والمعرفة سوف يمكننا من تطوير الأدب والثقافة واللغة الكردية في وجه جميع الهجمات التي تستهدف وجودنا كمجتمع وكشعب من جميع النواحي.

هناك تعليقان (2):