من اصدارات معهد كارنيغي للسلام الدولي
تعليق على أحداث، مارينا أوتاوي ودانيال القيسي
على الرغم من نظامه الديموقراطي الذي ثبّته الأميركيون وحظي بالكثير من الدعاية، أثبت العراق أنه ليس أقل عرضة إلى احتجاجات الشارع من البلدان الأخرى في المنطقة. ومنذ أوائل شباط/فبراير، ظهر إلى العيان سيل مستمر من الاحتجاجات المتواضعة نسبياً. وعلى الرغم من أنه من المفترض أن يكون المواطنون في النظام السياسي الديموقراطي قادرين على ممارسة الضغط على الحكومة ومحاسبتها من خلال الاعتماد على القنوات المؤسسية، يبدو أن العراقيين قد خلصوا إلى أنه لن يتم الإصغاء إليهم - على غرار الشعوب في البلدان السلطوية - ما لم ينزلوا إلى الشوارع بأعداد غفيرة.
لم يكن من المستغرب أن يصل العراقيون إلى مثل هذا الاستنتاج، لأن العراق، على مدى أكثر من سنة كاملة، أُرهق بفعل الحياة السياسية الصرفة الخالية من السياسة: معركة شرسة على الأصوات الانتخابية، بل والأكثر صفاقة، تسعة أشهر من المماحكات من قبل السياسيين حول من يشكّل الحكومة ومن يحصل على ماذا، مع قليل من الاعتبار لمشاكل البلد أو احتياجات مواطنيه. حتى أن الحكومة التي شُكّلت في كانون الأول/ديسمبر لاتزال تركّز على الحياة السياسية من دون سياسات؛ والشاهد هو الكمّ الكبير من التشريعات التي تراكمت في البرلمان من دون أن يتمّ إقرارها.
ولّدت الاحتجاجات إلى الآن الكثير من الأقوال لكن من دون أي إجراءات تصحيحية كبيرة من جانب الحكومة. ومع ذلك، فقد كانت التداعيات السياسية كبيرة. لقد أضعفت المظاهرات الائتلاف الحاكم الهش أكثر، حيث تسعى الأطراف إلى إلقاء اللوم على بعضها بعضاً، ويعيد كل السياسيين الآخرين النظر في علاقتهم مع رئيس الوزراء نوري المالكي. وبالإضافة إلى ذلك، أدت المظاهرات إلى استقالة عدد من المحافظين وإلى توترات جديدة بين الحكومة المركزية ومجالس المحافظات. وفي حين لايبدو حتى الآن أن حكومة المالكي مهددة على نحو خطير،إلا أنها تعرضت إلى الاهتزاز.
في الفترة نفسها، اندلعت الاحتجاجات في كردستان أيضاً، على الرغم من أنها اقتصرت على السليمانية إلى حد كبير. وفي حين أن جميع المتظاهرين في العراق يشتركون في بعض المخاوف المتشابهة، خصوصاً في شأن الصعوبات الاقتصادية وفساد الحكومة، فإن الاحتجاجات في شطري البلاد اتّبعت مسارات مختلفة وولّدت استجابات حكومية مختلفة. وبالفعل، فإن الاحتجاجات تسلّط الضوء على المدى الذي تؤدي فيه كردستان وبقية العراق دورهما بشكل منفصل عن بعضهما البعض. المتظاهرون في كل جزء من البلاد نظّموا أنفسهم بصورة مستقلة، وليس هناك تأثير امتداد ملحوظ من جزء إلى آخر.
المالكي يلجأ إلى سياسة العصا والجزرة
اندلعت الاحتجاجات في العراق يوم 4 شباط/فبراير واستمرت في الأيام التالية بمظاهرات صغيرة في بغداد والموصل والبصرة والرمادي والديوانية. أعرب المتظاهرون عن الاستياء من فشل الحكومة في تحسين الخدمات – كان نقص إمدادات الكهرباء هو الشكوى الرئيسة - وتقليص الحصص الغذائية بحكم الأمر الواقع (بسبب عدم توافرها) التي كانت الحكومة توزعها منذ ما قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. وكان رد الحكومة سريعاً بدرجة ملحوظة، وأظهرت أنها كانت على علم - بعد أسابيع من الاحتجاجات في أماكن أخرى - بأن حوادث صغيرة يمكن أن تكبر بسرعة لتتحول إلى اضطرابات وأن المطالب الاقتصادية لها انعكاسات سياسية.
أولاً جاءت الوعود الاقتصادية. أعلنت اللجنة المالية في البرلمان أن الحكومة ستوفر 288.000 وظيفة بعد الموافقة على الميزانية – وهو ما أكده المالكي رسمياً بعد أسابيع عدة - وأعلن المالكي أن الحكومة سوف تعطي مبلغ 15000 دينار (حوالي 12 دولار) شهرياً لكل مواطن لتعويض الانخفاض في الحصص الغذائية. وتعهّد بأن تحل مشكلة نقص الكهرباء بحلول فصل الشتاء.
ثم جاءت الخطوات السياسية، التي كانت متواضعة من حيث الجوهر ولكنها كشفت مخاوف الحكومة. ففي سياق بادرة شعبوية، أعلن المالكي على الفور أنه سيخفض مرتبه - يعتقد أنه أكثر من 41 مليون دينار (حوالي 350.000 دولار أميركي) في السنة – إلى النصف، ما يشكل ضغطاً على المسؤولين الآخرين لأن يحذوا حذوه. في 5 شباط/فبراير، أعلن المالكي أنه لن يترشح لولاية ثالثة - وهو وعد غريب، لأن رئيس الوزراء لا "يترشح" للمنصب - وأنه سيسعى لتعديل دستوري يفرض حداً أقصاه دورتان اثنتان لشغل المنصب. وأظهرت الوعود التي كانت تهدف إلى تهدئة المخاوف أن المالكي يعتزم أن يصبح رئيساً للوزراء مدى الحياة، وأنه يرى نفسه رئيساً يتمتع بتفويض شعبي أكثر منه رئيساً للوزراء مسؤولاً أمام البرلمان. سارع المالكي ومسؤولون حكوميون آخرون أيضاً، بمن فيهم أسامة النجيفي رئيس البرلمان، إلى طمأنة الجمهور بأنه ليس من الضروري تصعيد الاحتجاجات لأن الحكومة تستجيب لمطالبه.
مع استمرار الاحتجاجات في الأيام التالية، قدم المسؤولون الحكوميون المزيد من التنازلات، وبدا في بعض الأحيان أنهم يتنافسون مع بعضهم بعضاً لإثبات أنهم يعتبرون مطالب الجمهور مبرّرة وسيبذلون قصارى جهدهم لتنفيذ الإصلاحات المناسبة. تعهد رئيس البرلمان أسامة النجيفي بأن يتأكد البرلمان من أن تتم معالجة نقص الكهرباء وتوفير إمدادات الغذاء اللازمة لخدمة البطاقات التموينية. وحضّ المالكي الوزراء والمحافظين على الاختلاط مع المحتجين والاستماع إلى مطالبهم وشكاواهم.
بيد أن الحكومة استخدمت القوة أيضاً لإنهاء الاحتجاجات. عندما أضرم متظاهرون في محافظة واسط النار في منزل المحافظ وجزء من مبنى المحافظة - بعد انتظار استمر ساعات كي يفتح أحد المسؤولين لهم الباب ويستمع إلى مطالبهم على حد زعمهم - قيل إن مسؤولي الأمن ردوا بإطلاق الرصاص الحي، ما أسفر عن مقتل ما لايقل عن شخص واحد. دعا المالكي إلى إجراء تحقيق، ولكن المحافظ وصف المتظاهرين بالبلطجية وأن مطالبهم ليس لها ما يبررها. ندّدت قيادة عمليات بغداد بجميع الاحتجاجات بوصفها خطة بعثية تهدف إلى إحداث حالة من الفوضى، في حين اتّهم مجلس محافظة بغداد تنظيم القاعدة بالوقوف وراء المظاهرات.
يوم 21 شباط/فبراير، أعلن المالكي نفسه أيضاً، مع مواصلته إغداق الوعود بمعالجة المظالم بسرعة، أن هناك احتجاجات كثيرة واتهم أطرافاً لم يسمّها بإثارة الاضطرابات لجني مكاسب غير محددة. في اليوم التالي، اتهم البعثيين بالوقوف وراء الاحتجاجات في واسط. وفي مكان آخر، أعلن أن ثمة أشخاصاً من ذوي "النوايا الشريرة" مصممون على تدمير العملية السياسية وإعادة حقبة الجماعات المسلحة والتدخل الأجنبي. وعندما دعا المتظاهرون إلى "يوم غضب" في 25 شباط/فبراير، ردّت قيادة عمليات بغداد، بفرض حظر التجول على حركة السيارات في الليلة التي سبقت بداية الاحتجاج، في محاولة منها للحدّ من عدد من المشاركين من خلال إرغامهم على المشي لمسافات طويلة .
مع الدعوة ليوم غضب في 25 شباط/فبراير، اتخذت الاحتجاجات لهجة أكثر تسيّسا. لم تعد تأتي من مجموعات معزولة تطلب خدمات أفضل، ولكن من مواطنين غاضبين يتحدّون الحكومة. ونتيجة لذلك، بدأ الساسة بالمناورة كي يتجنبوا أن يصبحوا أهدافا. وأعلن المالكي أن من حق الناس أن يحتجوا، لكنه قال أيضاً إن هذا ليس هو الوقت المناسب للقيام بذلك. وحذر من متسللين يعتزمون خلق العنف وناشد العراقيين بعدم المشاركة. وأعلن الرئيس العراقي جلال الطالباني أنه يخوّل رئيس الوزراء الأمر ثم لزم الصمت.
أعلنت وزارة الداخلية (التي لاتزال برئاسة المالكي بوصفه قائماً بأعمال الوزير) أنها تمتلك وثائق عديدة تبيّن أن القاعدة كانت تعتزم ارتكاب أعمال إرهابية تستهدف الاحتجاج. ورداً على ذلك، أعلنت ثماني مجموعات مسلحة - بما في ذلك بعض المشتبه في أن لها صلات بتنظيم القاعدة - أنها ستعلق جميع أنشطتها في 25 شباط/فبراير لإعطاء فرصة للمحتجين كي يتظاهروا سلمياً. وأصدر رؤساء مكاتب الأوقاف السنية والشيعية والمسيحية بياناً مشتركاً يناشد المتظاهرين منح الحكومة الوقت الكافي لإنجاز ميزانية العام 2011 التي تمت الموافقة عليها حديثاً، والتي قالوا إنها ستعالج العديد من المشاكل. في الوقت نفسه، دعمت بعض الهيئات الدينية الشيعية الاحتجاجات، بما في ذلك آية الله العظمى علي السيستاني، الذي كان قد أعلن من خلال المتحدث باسمه أن الاحتجاج حق ديموقراطي، حتى أن ممثلاً للسيستاني انضم في الواقع إلى المتظاهرين في بغداد.
تبيّّن أن يوم الغضب كان مجرد حدث ضئيل نسبياً، مقارنة بالتأكيد مع ما كان يحدث في أماكن أخرى. وقعت مظاهرات في وقت واحد في العديد من المدن، ولكن على نطاق متواضع، وأشارت التقارير الواردة من معظم المدن بمشاركة مئات من الأشخاص فقط. وحتى في بغداد، خرج بضعة آلاف إلى الشوارع، على الأكثر. لكن الاحتجاجات كانت بالتأكيد أكثر غضباً وتسييساً من المظاهرات السابقة، وهكذا كان ردّ فعل الحكومة.
في بغداد، حطّم المتظاهرون بعض الحواجز حول المنطقة الخضراء، وشرعوا بالدخول إليها، حيث ندّدوا بالاحتلال الأميركي والدولة البوليسية في بغداد. وفي نينوى، طالب المتظاهرون باستقالة مجلس المحافظة وإصلاح الحكومة المركزية، وعبّروا عن مطالبهم بطريقة درامية من خلال إشعال النار في مبنى مجلس المحافظة، وكان رئيس البرلمان أسامة النجيفي وشقيقه محافظ نينوى أثيل النجيفي، داخل المبنى. كما أضرم المحتجون النار في مبنى حكومي في الموصل.
وفي حين كان يوم 25 شباط/فبراير بالكاد يوم غضب، فإن تأثيره السياسي كان لافتاً. أولاً، تسبّبت الاحتجاجات في موجة من الاستقالات، ليس في الحكومة المركزية ولكن من جانب المحافظين ومسؤولي الشرطة المحلية. ثانياً، هزّت الاحتجاجات الائتلاف الحاكم الهش بالفعل، ما أدى بالعديد من الأحزاب إلى وضع مسافة بينها وبين المالكي وإعادة النظر في خياراتها. ثالثاً، أثّرت المظاهرات على العلاقة بين الحكومة المركزية والمحافظات، حيث سعى المالكي وغيره من المسؤولين في المركز إلى تحويل مسؤولين في المحافظات إلى كبش فداء، فردّ هؤلاء بالمثل.
المسؤولون المحاصرون يستقيلون
النظام السياسي في العراق أقل مركزية من مثيلاته في معظم الدول العربية. ففي حين يوجد اتجاه واضح نحو زيادة المركزية في بغداد - مثلما هو حال احتكار السلطة في يد المالكي - فقد تم انتخاب مجالس المحافظات في العراق (يتم تعيين المحافظين). كما أن في العراق مجالس محلية، على الرغم من أنها تشكّلت قبل ستة أعوام في عملية غير ديموقراطية اختطلت فيها التعيينات المباشرة بالاستشارات، ولم يتم تجديدها منذ ذلك الحين.
أثّرت اللامركزية النسبية للنظام في الاحتجاجات أيضاً. فالحشود التي نزلت إلى الشوارع لم تستهدف فقط القضايا ذات الاهتمام المشترك في جميع أنحاء البلاد - من نقص الكهرباء إلى الفساد – بل أيضاً مظالم محلية محددة أيضاً، تم التعبير عنها في كثير من الأحيان بوصفها مطالبات للمسؤولين المحليين كي يقدموا استقالاتهم.
وبالفعل استقال الكثيرون وبسرعة مذهلة. أدى يوم الغضب في الحال إلى إستقالة محافظ البصرة شلتاغ عبود ومحافظ بابل سلمان الزركاني، وكلاهما عضوان في ائتلاف دولة القانون استهدفهما المتظاهرون على وجه التحديد. واستقال عدد من قادة الشرطة وبعض المسؤولين الإقليميين رفيعي المستوى في جميع أنحاء البلاد أيضاً.
تحوّل العلاقات بين المركز والأطراف
لم تكن الاستقالات سوى جزء من القصة. فقد أثارت الاحتجاجات أيضاً سلسلة من التغييرات - أو محاولات التغيير - في العلاقة بين المسؤولين الاتحاديين والإقليميين والمحليين، الذين سعوا جميعاً لإلقاء اللوم على بعضهم بعضاً بسبب المشاكل التي كان المتظاهرون يستنكرونها.
سعى المالكي إلى إلقاء اللوم على مجالس المحافظات والمجالس المحلية. بعد وقت قصير من يوم الغضب، دعا المالكي إلى عقد انتخابات لمجالس المحافظات، وكذلك لتجديد المجالس المحلية. ولكن انتخابات مجالس المحافظات كانت أجريت في كانون الثاني/يناير 2009، وكان أعضاؤها - وهو الأمر غير المستغرب - موحّدين في رفض إجراء انتخابات مبكرة، معتبرين أن الوضع البائس في تقديم الخدمات لايرجع إلى الإهمال ولكن إلى تباطؤ الوزارات والحكومة المركزية .
حاول المالكي أيضاً إرغام محافظي واسط ونينوى على الاستقالة. نجح في تحقيق ذلك في واسط، حيث أرغم مجلس المحافظة المحافظ لطيف حمد الطرفة (عضو في ائتلاف دولة القانون) على الاستقالة. كانت القضية هناك تتعلق بالفساد أساساً. وبالإضافة إلى اتهامه بأن سوء تعامله مع الاحتجاجات السابقة أدى إلى وقوع إصابات، فقد تمت بالفعل إحالة مزاعم الفساد ضد الطرفة إلى اللجنة المستقلة للنزاهة.
ولكن المالكي لم ينجح في نينوى، حيث كان الوضع أكثر تعقيداً. فأولاً ، لم يكن المحافظ أثيل النجيفي، وهو شقيق رئيس البرلمان، ينتمي إلى ائتلاف دولة دولة القانون بزعامة المالكي. وبما أنه سني له قاعدة نفوذ قوية في محافظة هامة متاخمة لكردستان، فقد انضم إلى ائتلاف العراقية في الانتخابات وعارض محاولة المالكي الحصول على فترة ولاية ثانية كرئيس للوزراء. وليس من المستغرب إذاً أن النجيفي رفض الاستقالة، مشيراً إلى أنه لن يفعل ذلك إلا استجابة لمطلب شعبي أو إذا تم إقصاؤه من قبل مجلس المحافظة.
ليس ثمة ما هو استثنائي في هذه الجولة من الاتهامات المتبادلة التي يمكن التنبؤ بها تماماً، ومع ذلك، لا أحد يريد تحمّل المسؤولية عن الفشل إذا كان بمقدوره إلقاء اللائمة على شخص آخر. ولكن في بيئة العراق، وحتى على نطاق أوسع بيئة العالم العربي، بنظمه السياسية شديدة المركزية، كان تبادل الاتهامات يشير إلى شيء استثنائي: درجة حقيقية من اللامركزية، حيث تمتلك حكومات المحافظات قواعد نفوذها الخاصة وبالتالي بعض الاستقلال. كان ثمة سياسة في كل من المركز والمحافظات.
ومع ذلك، فإن ما كان أقل وضوحاً بكثير هو ما إذا كانت اللامركزية تحقق أيضاً ما يفترض أن تنتجه اللامركزية من الناحية النظرية، أي الحكم الذي يستجيب لمطالب المواطنين. فقد أظهر المحافظون ومجالس المحافظات بوضوح أنهم في الوقت الذي سوف يحمون سلطتهم واستقلاليتهم على نحو يتسم بالغيرة، فإنهم لم يظهروا التزاماً بالحكم الفعال.
تمثل جزء من التحول في العلاقة بين المركز والأطراف في تجديد النقاش حول تشكيل أقاليم حكم ذاتي جديدة مثل كردستان. في أوائل آذار/مارس، وقع اثنا عشر من أعضاء مجلس محافظة النجف الـ 28 عريضة تطالب بتحويل النجف من محافظة إلى إقليم مشابه لكردستان. كانت العريضة ذات أهمية خاصة لأن الموقعين ينتمون إلى أحزاب مختلفة، بما في ذلك التيار الصدري، وائتلاف دولة القانون، والمجلس الأعلى الإسلامي في العراق، وحزب الإصلاح بزعامة رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري وكلها أحزاب شيعية بالفعل، لكن النجف محافظة أكثر سكانها من الشيعة.
يقرّ الدستور العراقي بحق المحافظات، بشكل فردي أو كجزء من مجموعة، بالمطالبة بالاعتراف بها كأقاليم، ما يتيح لها التمتع بالاستقلال والحكم الذاتي الموجود الآن في كردستان فقط. فإذا ما طالب ما لا يقل عن ثلث أعضاء مجلس المحافظة بتشكيل إقليم جديد، يتعين على الحكومة النظر فيه. لم يتم تقديم مثل هذه العريضة إلى أن جاءت مبادرة النجف؛ حيث تم التخلي بسرعة عن مناقشة سابقة حول إمكانية إقامة إقليم كبير يضم تسع محافظات يغلب عليها الشيعة في جنوب ووسط البلاد. ادعى مؤيدو إقامة إقليم النجف أنهم يريدون أن يتم الاعتراف بالنجف كإقليم لانهم يعتقدون أن ذلك سيؤدي إلى تحويلات مالية أكبر من الحكومة المركزية إلى النجف. نظر المعترضون إلى المبادرة باعتبارها مناورة سياسية لتجنب الاستجابة لمطالبهم ورفضوا الفكرة بغضب.
إعادة النظر في التحالفات
ربما كان أهم أثر للاحتجاجات حتى الآن هو اهتزاز الائتلاف الحاكم في العراق. فقد تم تشكيل الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 2010 بعد تسعة أشهر من الخلافات وبعد أن أجريت انتخابات 7 آذار/مارس البرلمانية، منذ البداية، على أساس تحالف كبير هش للأحزاب لم تجمعه إيديولوجية مشتركة أو برنامج حكم مشترك، بل جمعته النفعية والمصلحة. فلا المالكي ولا إياد علاوي زعيم قائمة العراقية تمكن من تشكيل ائتلاف يوفّر الأغلبية المطلوبة من مقاعد البرلمان مع استبعاد منافسه. الأحزاب الشيعية التي رفضت في البداية محاولة المالكي البقاء رئيساً للوزراء، خصوصاً المجلس الأعلى الإسلامي العراقي والتيار الصدري لم تكن قادرة على الالتفاف حول مرشح بديل. وبالتالي اضطرت جميع الأحزاب للعمل معاً، لكنها فعلت ذلك من دون قدر كبير من الحماسة أو الاقتناع.
عندما بدأت الاحتجاجات، لم يكن تشكيل الحكومة قد اكتمل. شغل وزراء مؤقتون العديد من المناصب الوزارية لأن الأطراف لم تتمكن من الاتفاق على مرشح معين. والأهم من ذلك، كان المالكي يتولى شخصياً مناصب وزير الدفاع والداخلية والأمن الوطني بصورة مؤقتة، وبدا أنه ليس في عجلة من أمره للتخلي عن المناصب إلى وزراء معينين دائمين. وفي حين أشارت مصادر قريبة من رئيس الوزراء إلى أن التأخير كان بسبب عدم وجود توافق في الآراء بشأن مرشحي التحالفات المختلفة، كان المالكي أكثر صراحة، حيث صرح بأنه لا يرى تطوراً في التوافق في الآراء. لم يكن قد تم بعد تشكيل المجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية العليا، وهي آلية وافق المالكي على إنشائها كوسيلة لإشراك علاوي المتردد في الحكومة، لأنه لم يكن ثمة اتفاق حول دوره. وجادل علاوي، الذي كان من المقرر أن يترأس المجلس، بأنه يتعين أن يكون المجلس هيئة تنفيذية قوية يمكنها الحد من سلطة رئيس الوزراء، لكن المالكي أصر على أن يكون مجرد مجلس استشاري. ونتيجة لذلك، بقي مشروع القانون الخاص بالمجلس الوطني للسياسات الإستراتيجية العليا مهملاً في مجلس النواب.
بمجرد بدء الاحتجاجات، أصبحت الأطراف المتنافسة في الائتلاف الحاكم مهتمة باتهام بعضها البعض بالتسبب في المشاكل أكثر من اهتمامها بالعمل معاً لإيجاد حل. ربما لم يكن معظم السياسيين العراقيين يرغبون في رؤية الحكومة وهي تسقط، لكن محاولاتهم لتحويل غضب الرأي العام عن حزبهم من خلال إلصاقه بحزب آخر أضعفت الحكومة.
كان مقتدى الصدر أول شخصية هامة تنأى بنفسها عن الحكومة، حيث أعلن في 14 شباط/فبراير أن العراقيين لهم الحق في التظاهر للحصول على خدمات أفضل وضد الاحتلال. كان الصدريون في موقف صعب: فبعد أن اختاروا، على أمل أن يكتسبوا الشعبية، السيطرة على الوزارات التي تقدم الخدمات للجمهور، أصبحوا يخاطرون الآن بفقدان الدعم إذا ما تم توجيه اللوم إليهم بسبب سوء الأداء.
الصدر الذي تعرض للانتقاد من جانب المالكي وغيره في ائتلاف دولة القانون على خلفية مهاجمة الحكومة التي كان جزءاً منها، لم يكف عن الهجوم. أعلن أن حزبه يعتزم إجراء استفتاء حول آراء الناس بشأن وضع الخدمات في البلاد، لكنه ناشد المحتجين أيضا بأن يعطوا الحكومة مهلة ستة أشهر لمعالجة شكاواهم. وقال الصدر إنه إذا لم تقم الحكومة بإنجاز ما هو مطلوب منها، فسوف يؤيد المحتجين تماماً.
ليس من المستغرب أن نتائج الاستفتاء أشارت، عندما تم نشرها في منتصف آذار/مارس، إلى أن الغالبية العظمى من العراقيين الـ 3.8 مليون من جميع أنحاء البلاد الذين ذُكِر أنهم شاركوا، اتفقوا على أن الخدمات كانت في حالة سيئة، وأنهم سيدعمون الاحتجاجات إذا لم تتحسن الخدمات في غضون ستة أشهر. كما انتقد المجلس الأعلى الإسلامي العراقي وزعيمه عمار الحكيم، على نحو أقل حدّة، طريقة تعامل الحكومة مع من الاحتجاجات وأعرب عن تأييده لمطالب المحتجين.
بعد احتجاجات 25 شباط/فبراير، والحملة التي شنتها قوات الأمن في جميع أنحاء البلاد، حاول أعضاء آخرون في الائتلاف الوطني - تحالف الأحزاب الشيعية الذي نجح المالكي في تشكيله بصعوبة من خلال أشهر من الجهود - أن ينأوا بأنفسهم عنه من دون التسبب في انهياره بشكل كامل. وأعلن علاوي تخليه عن قيادة المجلس الإستراتيجي الذي لم يتم تشكيله بعد (منهياً تعاونه مع المالكي بالفعل) وسافر إلى النجف لمقابلة الصدر. وصرح المتحدث باسم القائمة العراقية أنها قد بدأت في التنسيق مع التيار الصدري.
كما جرت عمليات انشقاق داخل ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي نفسه. استقالت صفية السهيل، وهي واحدة من عدد قليل من النساء في المنظمة، بعد وقت قصير من بدء الاحتجاجات، وأعلنت استقلالها. واستقال جعفر باقر الصدر، نجل الراحل آية الله العظمى محمد باقر الصدر، من مجلس النواب. وكان جعفر الصدر خاض الانتخابات البرلمانية كمستقل على لائحة ائتلاف دولة القانون وحصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات في بغداد. وكان قد ترك البرلمان يوم 17 شباط/فبراير، مدعياً أن عدداً قليلاً من الأفراد يحتكرون عملية صنع القرار في ائتلاف دولة القانون، وأن البرلمان غير فعال بسبب الطائفية، وأنه لا البرلمان ولا الحكومة يمكنهما وضع سياسات أو لديهما رؤية للمستقبل.
ومما زاد في مشاكل المالكي أن آية الله العظمى علي السيستاني دعم المحتجين علناً. فقد أرسل ممثلاً شخصياً له للمشاركة في يوم الغضب في 25 شباط/فبراير، وأشاد في وقت لاحق بالمشاركين لأنهم طالبوا بحقوقهم بصورة سلمية. كما دعا الزعيم الديني، الذي يحظى باحترام كبير، إلى إجراء إصلاحات ملموسة، محذراً من عواقب وخيمة إذا استمرت الحكومة في مسارها الحالي.
في وقت كتابة هذا التقرير في منتصف آذار/مارس، كان لايزال من السابق لأوانه القول ما إذا كان من شأن الشقوق التي تظهر في الائتلاف الحاكم أن تتوسع إلى حد التسبب في انهياره. بالتأكيد، كانت التوترات تتزايد: فقد عاد إلى الظهور انعدام الثقة بالمالكي الذي أخر لأشهر عدة تشكيل التحالف الوطني؛ وكان علاوي يشعر بالاستياء، ونشأت فصائل في ائتلاف العراقية. ولكن لم يكن أي طرف واثقاً من أنه سيكون ممكناً تشكيل ائتلاف حاكم بديل اليوم أكثر مما كان عليه الحال في الماضي. كانت جميع الفصائل تختبر إلى أي مدى يمكن أن يدفع بعضها البعض من دون إحداث انهيار والتسبب في سقوط الحكومة.
احتجاجات في كردستان
كما هزّت الاحتجاجات كردستان، والتي أثارتها في البداية مجموعة من المظالم المحلية وما يسمى تأثير المظاهرات الناجم عن الأحداث في تونس ومصر. لكن الفصل بين كردستان وبقية البلاد واسع بحيث لم تكن هناك روابط بين المتظاهرين في المنطقتين. اتبع المتظاهرون في كردستان مسارهم الخاص حيث حل السخط الشعبي حول مشاكل الفساد وغيرها محل التنافس بين الأحزاب الكردية وأضعف المناشدة الوطنية من قبل القيادة التي كانت تحاول صرف الاحتجاج بعيداً عنها.
منذ فترة طويلة يسيطر على كردستان حزبان سياسيان يمثلان عائلتين سياسيتين ومنطقتين فرعيتين مختلفتين. الحزب الأكبر هو الحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي يرتبط بعائلة بارزاني. يسيطر الحزب على رئاسة حكومة إقليم كردستان ويتناوب مع منافسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في تسمية رئيس الوزراء في حكومة إقليم كردستان. يرتبط الاتحاد الوطني الكردستاني بعائلة الطالباني، وهو الحزب المهيمن في السليمانية، كما يسيطر أيضاً على رئاسة العراق، وحالياً، على منصب رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان. منذ العام 2009، لايزال الاتحاد الوطني الكردستاني يفقد الدعم لصالح حزب جديد، غوران (الحركة من أجل التغيير)، الذي أسسه العضو السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني نوشروان مصطفى. وقد أصبحت الاحتجاجات جزءاً من السياسة الحزبية في المناطق ومن التنافس بين الأحزاب السياسية الرئيسة.
بدأت الاضطرابات في السليمانية يوم 17 شباط/فبراير. وصفت التظاهرة ظاهرياً على أنها إظهار للتضامن مع الشباب في تونس ومصر، ولكن سرعان ما بدأ المحتجون في السير إلى مقر الحزب الديموقراطي الكردستاني، داعين إلى الإصلاح، وقيل إنهم كانوا يرددون أن "الفاسد يجب ان يواجه العدالة". ومن غير الواضح من الذي بادر إلى ذلك، ولكن تم إلقاء اللائمة على غوران، الحزب الحديث، بسبب المظاهرات المناهضة للحزب الديموقراطي الكردستاني، على الرغم من أنه نفى القيام بأي دور.
ورداً على الاحتجاجات، على الأرجح، تم إحراق مقر حزب غوران في أربيل، وكذلك مقر محطة تلفزيون KNN التي يملكها زعيم حزب غوران نوشروان مصطفى. وفي الوقت نفسه، تحركت وحدات من قوات البيشمركة، قوة دفاع كردستان، من أربيل إلى السليمانية لتفادي أي تصعيد محتمل. في اليوم التالي، نهبت مكاتب غوران في مدينة أخرى شمالية، هي دهوك. وتعرض بعض الصحفيين المتعاطفين مع المتظاهرين أو المرتبطين بشركة مصطفى الإعلامية، Wusha، إلى اعتداءات ومضايقات أيضاً. كما جرت احتجاجات على نطاق ضيق في مدن عدة أخرى ولكنها سرعان ما خمدت.
حاول الحزب الديومقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في البداية التعامل مع الاحتجاجات باعتبارها قضية أمنية. وزعما، من دون تسمية أي منظمة، أنه تم التخطيط للاحتجاجات عمداً بهدف زعزعة استقرار كردستان. ولكن عندما بدأ المتظاهرون يطالبون باستقالة رئيس وزراء كردستان برهم صالح، عضو الاتحاد الوطني الكردستاني، غيّر الحزبان تكتيكاتهما. أعلنت قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني أنها تؤيد إجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة موسعة، بمشاركة حزب غوران على الأرجح، مظهرة مقدار قلقها بشأن الاضطرابات. وشكل مسؤولو حكومة إقليم كردستان أيضاً لجنة خاصة لدراسة مطالب المتظاهرين والمعارضة من أجل معالجة المشاكل.
ومع ذلك، لم تؤدّ الوعود إلى تهدئة المعارضة. وفي يوم 3 آذار/مارس، قاطع حزب غوران واثنان من أحزاب المعارضة الصغيرة جلسة للبرلمان الكردي. ولأنه كان واضحاً أنه يشعر بقلق، دعا رئيس كردستان مسعود البارزاني على الفور إلى إجراء حوار مع المعارضة لوضع برنامج للإصلاح. وفي الآونة الأخيرة، قال إنه سيستقيل من منصبه إذا فشل برنامج الإصلاح، على الرغم من أنه لم يقدم تعهده إلا بعد أن وقّعت تسعة أحزاب كردية، بما في ذلك الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديموقراطي الكردستاني، وحزب غوران اتفاقاً بعدم تعبئة الشارع ضد بعضها بعضاً.
دعا بارزاني أيضاً إلى إجراء انتخابات مبكرة، نافياً أنه ينوي البقاء رئيساً مدى الحياة. وأعرب رئيس الوزراء صالح، وهو عضو إصلاحي إلى حد ما من الاتحاد الوطني الكردستاني، بعد ذلك عن استعداده للتنحي إذا دعاه البرلمان للقيام بذلك، وربما كانت تلك لفتة فارغة لأن الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني يهيمنان على البرلمان، وليس من المرجح بالتالي أن يطالب باستقالته. واصل حزب غوران، مستفيداً من لحظة ضعف الأحزاب الكبرى، الضغط من أجل تغيير أسرع، ورفض وعود الرئيس بوصفها غير كافية، ودعا الحكومة إلى الاستقالة من دون انتظار انتخابات جديدة.
لعبت القيادة الكردية أيضاً ورقة أخرى لإنهاء الأزمة السياسية. فقد سعت إلى توحيد كل الأكراد حول مسألة يتفقون عليها والمتمثلة بضم مدينة كركوك المتنازع عليها. يوم 27 شباط/فبراير، أمر بارزاني بنشر وحدتين من البيشمركة حول كركوك، مدعياً أن الإرهابيين تسللوا إلى المدينة لتنظيم احتجاجات، وأن نشر قوات البيشمركة ضروري لحماية السكان. وعلى الرغم من دعوات المالكي والعرب والتركمان المقيمين، وحتى الولايات المتحدة، رفضت حكومة إقليم كردستان سحب البيشمركة، لا بل إن رئيس وزراء حكومة الإقليم السابق نيشروان بارزاني هدد بنشر المزيد من القوات إذا لم يتحسن الوضع. وفي خطوة غير متوقعة تماماً شككت في ولائه للعراق ككل، أعلن الطالباني يوم 8 آذار/مارس أن كركوك هي "قدس كردستان"، ودعا إلى إقامة تحالف إستراتيجي كردي - تركماني ضد "الإرهابيين والمحتلين الجدد" لكركوك.
من خلال خلق أزمة في كركوك، ربما نجح الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني في إسكات المعارضة الكردية، وهي الأزمة التي لايمكن النظر إليها على أنها فاترة بشأن قضية كركوك. وقد نجحا أيضاً في إحياء مسألة تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي، التي تدعو إلى إجراء استفتاء يقرّر فيه سكان كركوك ما إذا كانوا يرغبون في أن تصبح المدينة جزءاً من كردستان. وفي حين أن الأزمة مفيدة في المدى القصير للأحزاب الكردية المهيمنة في محاولتها إسكات المعارضة، فإنها قد تكلف العراق ككل، في المدى البعيد، ثمناً غالياً من خلال تجديد التوترات التي تهدد وحدة البلاد.
حدثت التغييرات في تركيبة كركوك السياسية بالفعل، عندما أعلن المحافظ مصطفى عبدالرحمن ورزكار علي، رئيس مجلس محافظة كركوك، استقالتهما يوم 15 آذار/مارس لأسباب شخصية. في الواقع، كانت الاستقالتان نتيجة لاتفاق سياسي بين التحالف الكردستاني والجبهة التركمانية، التي من المحتمل أن تترأس الآن مجلس المحافظة. قد يكون هذا بداية تحالف إستراتيجي دعا إليه طالباني، وسوف يضع المزيد من الضغوط على المالكي لتنفيذ المادة 140.
خلاصة
لقد أدى نجاح الحركات الاحتجاجية في تونس ومصر إلى إسقاط رئيسين لا يحظيان بشعبية، وإطلاق عملية تحولات سياسية خلقت آمالاً بأن تمضي الدول العربية الأخرى على الطريق نفسه. وفي المقابل، عندما استخدمت حكومات اليمن وليبيا والبحرين القوة لقمع الانتفاضات وبسط سيطرتها، قفز العديد من المراقبين إلى استنتاج مفاده أن الربيع العربي قد انتهى. العراق وكردستان يشيران إلى استنتاج مختلف، بمعنى أن الاحتجاجات في كل بلد تتبع ديناميات مختلفة، يمليها الوضع السياسي المحدد في ذلك البلد.
ما من شك في أن ثمة ظروفاً مماثلة في الدول العربية تحرّض على الاحتجاج، كما أن تأثير المظاهرات يشجع مواطني بلد على أن يحذو حذو مواطني بلد آخر. جميع الدول العربية تعاني من زيادة أعداد الشباب؛ كلها، بما في ذلك الأكثر ثراء، وارتفاع معدلات البطالة، لا سيما في صفوف الشباب. الأنظمة في كل مكان استبدادية وغير قادر على الاستجابة لمواطنيها، حتى تلك التي تحترم على الأقل بعضاً من أشكال الديموقراطية. ولكن حتى لو أشعلت عوامل مماثلة شرارة الاحتجاج، فإن ما يحدث بعد ذلك تحركه ظروف سياسية مختلفة.
في العراق، كان الاحتجاج الشعبي محدوداً للغاية - على الرغم من استمراره - في جلب حشود إلى الشوارع نادراً ما تجاوزت بضع مئات من الأشخاص. وفي بلد ذي نظام استبدادي متجانس، ربما لم تكن مثل هذه الاحتجاجات لتهمّ. ربما كانت السلطات فرّقتها بسرعة، من دون عواقب سياسية. وحدها الاحتجاجات الأكبر حجماً كانت ستقنع الحكومة بتقديم تنازلات.
لكن العراق فيه نظام سياسي مختلف. وفي حين أظهر المالكي نزعات استبدادية واضحة ومقلقة، إلا أنه لا يترأس نظاماً متجانساً. الائتلاف الحاكم منقسم، وبالتالي فهو ضعيف داخلياً. وعلاوة على ذلك، توجد مراكز منفصلة للسلطة على مستوى المحافظات. النظام غير ديموقراطي، ولكنه تعددي. ونتيجة لذلك، فإن الاحتجاجات التي كانت ستؤدي إلى تداعيات قليلة، إن وجدت، في النظم السياسية الأكثر تجانساً، هزّت الائتلاف الحاكم في العراق وأثّرت على العلاقة بين الحكومة المركزية والمحافظات. هذه النتيجة ليست إيجابية بالضرورة للمواطنين الذين يريدون من الحكومة معالجة مشاكلهم. كان للاحتجاجات، في الواقع، تأثير عكسي: إعادة إشعال المنافسة السياسية الخالية من المضمون المتعلق بالسياسة، ومن ثم إحجام السلطات عن معالجة مشاكل البلاد الملموسة.
في كردستان، جرى خطف الاحتجاج الشعبي بسرعة، في ظل ظروف غير واضحة، من جانب الأحزاب السياسية. ولذلك أصبحت الاحتجاجات أداة حاولت الأحزاب الحاكمة في كردستان استخدامها ضد المعارضة. وعندما فشلت هذه المناورة تمكنت حكومة كردستان من سحق الاحتجاجات في موجة من القومية الكردية. وقد نجح ذلك في توحيد الأكراد لكنه قسّم العراق، مع خطر إشعال صراع خطير.
لاتزال قصة الاحتجاج الشعبي تتكشف في كل من العراق وكردستان. ولن يكون من الحكمة التكهن بالنتيجة، ولكن يبدو من المعقول أن نخلص إلى أن الظروف السياسية في كلتا المنطقتين سوف تحول دون حدوث إما سيناريو تونس / مصر أو سيناريو اليمن / ليبيا / البحرين. في النهاية، سيتم تحديد النتائج عبر الديناميكيات السياسية في العراق وكردستان
0 كۆمێنت:
إرسال تعليق