السليمانية - خالد سليمان
(استجعل. . ها قد وصل الموت)، كان هذا هو العنوان الأخير الذي اختاره الشاعر
الكردي الكبير شيركو بيكه س (1940 ـ 2013) لمجموعته الشعرية الأخيرة، التي صدرت في
مدينة السليمانية هذا العام، وكأنه أختار لموته، الذي التقاه أمس، 4 آب/ أغسطس، في
إحدى مستشفيات العاصمة السويدية ستوكهولم، عنواناً وأراد أن يعلن ما لا يمكن البوح
به.
وحين داهمه مرض السرطان
في حنجرته، وحجز صوته الذي طالما صدح به في أوان الشعر، كتب وصية يطلب فيها دفنه في
حديقة (آزادي) في مدينته، السليمانية، كي يكون قريباً من العشاق وأمسيات زوار الحديقة،
إذ كانت مقراً عسكرياً وسجناً كبيراً باسم (الحامية) في عراق عهد الدكتاتور صدام حسين،
وصار اليوم حديقة بعنوان (الحرية) في قلب المدينة.
أنا في بيتي هذه الليلة/
أود طرد (العزلة)
وأبتعد بكل حريتي / عن
ذلك الهزيل، جاحظ العينين
بهذه الكلمات، واجه شيركو
بيكه س موته المعلن، إنما يستعيد في ذات اللحظة تلك الرقصة الداخلية التي تصنعها الموسيقى
ويلجأ تالياً للبحث عن بهجة لا يستعيدها سوى الطبل والمزمار. وفي هذه الصورة، إذ يخلّد
فيها صوت الطبل الإفناء ويطرد العزلة، موت رحيم يرسمه الشاعر لنفسه وفي عزلته. كان
شيركو بيكه س حالة شعرية، يمكن تسميتها بالشعرية الدائمة في الأدب الكردي، فمنذ سبعينات
القرن المنصرم وتأسيسه حركة المرصد (روانكة) الأدبية مع مجموعة من الشعراء والروائيين
الكرد، تتجدد قصيدته وتلتصق بذاكرة الكرد الثقافية والشعبية والسياسية. ولئن استطاع
الشاعر أقلمة النص في نزعة تجريبية تتابعية وفق رؤى مفتوحة وسياقات مختلفة في بناء
النص المستلهم من السياسة والتاريخ والحكايات والملاحم الغنائية، أبعد مشروعه عن الحداثة
الشكلية، واقترب أكثر فأكثر من مفاهيم الجمالية الشعبية والغنائية في كتابة القصيدة.
وطالما بقي الواقع أسير صور لاشكلية، اتسم أسلوبه بالليونة الصورية واللغوية، وصارت
لدى القارئ إمكانية بناء علاقة غنائية مع شعره الممتزج بمشهدية الطبيعة والسياسة والمخيلة
الشعبية واللجهات المحكية في اللغة الكردية، والذاكرة بطبيعة الحال. قالي لي في حوار
أجريته معه ربيع عام ٢٠٠٠ إنه يتنفس الشعر من خلال الذاكرة الشعبية: "أتنفس شعراً
من تلك الذاكرة التاريخية، إذا أقترب من خلالها من لب المأساة الإنساني للتراجيديا
الكردية على مر العصور. وهذا يرجع إلى تكويناتي الأولى لشخصيتي الاجتماعية والثقافية.
أنا أعتبر نفسي مخرجاً شعرياً للقطات المهمة في الانعطافات الحياتية، كي أنتج فيلماً
شعرياً طويلاً يترسخ في الذاكرة الجماعية، دون أن أنسى مهمة الشعر الفنية".
ما ميز شعر شيركو بيكه
س هو جريان دائم للكلمة والصورة داخل القصيدة بسوية واحدة، فاللغة لديه تعدت حدودها
وارتسمت ضمن المخيلة الأسطورية، إنما بمقاسات الواقع الكردي المر، حيث كتب فيه عن ذاكرة
مبعثرة بين الهزائم والحروب القديمة/ الحديثة والأسى والعزاء، والأحلام الوردية أيضاً.
وكانت كتابة القصيدة الطويلة أو الروائية مستخدماً فيها الشخصية والحكاية والصراع والبداية
والذروة والنهاية، تجسد تلك المساحة التي استطاع الشاعر فيها استنطاق مأساة الإنسان
الكردي. وكتب بهذا المقاس الشعري الذي تميز به نصوصاً شعرية كثيرة، من قبيل (مضيق الفراشات)
و(مقبرة الفوانيس) ونصوص أخرى.
كان الشاعر، ملتصقاً بالواقع
اليومي للمجتمع الكردي والمشهد السياسي والثقافي، متابعاً للسجالات السياسية والثقافية
العربية، رغم نقده الصارخ للمثقفين العرب بسبب صمتهم حيال مآسي الأنفال وحلبجة على
يد نظام صدام حسين. وقد انتقد المثقفين الكرد والعرب على حد سواء، وكان يعتبر السياسة
موقفاً من الوجود والشعر والفن.
0 كۆمێنت:
إرسال تعليق