05‏/08‏/2013

مقبرة الفوانيس لشيركو بيكه س : عندما تشترط المأساة على اللغة عنفاً لكل زمانشيركو بي

شيركو بيكس - الصورة من ارشيف جريدة السفير اللبنانية



خالد سليمان

يعتبر شيركو بيكه س ظاهرة شعرية مستمرة في الأدب الكردي ، فمنذ سبعينات القرن الماضي وتأسيسه حركة " روانكة " الأدبية مع مجموعة من الشعراء والروائيين الكرد تتجدد قصيدته وأصبحت نموذجاً نقدياً وشعبياً في ذاكرة الثقافة الكردية .
ولأن استطاع الشاعر أقلمة النص مع نزعة تجريبية تتابعية وفق رؤى مفتوحة وسياقات مختلفة في بناء النص المستلهم من السياسة والتاريخ والحكايات والملحمية الغنائية ، أبعد مشروعه عن الحداثة الشكلية واقترب أكثر فأكثر من مفاهيم الإستاتيكا الشعبية والغنائية في كتابة القصيدة . وطالما بقي الواقع أسير صور غير شكلية ،إتسم اسلوبه بالليونة الصورية " الحية " واللفظية وصار لدى القارئ الكردي إمكانية بناء علاقة غنائية مع نتاجه الأدبي الذي تنوع بين النصوص القصيرة جداً والنص الطويل والقصة الشعرية والمسرحية الشعرية وأخيراً الرواية الشعرية .
في بداية عقد تسعينات القرن الماضي كتب بيكه س نصه الشعري الروائي الأطول " مضيق الفراشات " وأحدث تغييراً راديكالياً على المفاهيم الشعرية السائدة وقتئذ ، إذ ابتكر " ملمحية جديدة " في رواية الأحداث وكتب دون اللجوء إلى الاسلوبية الكلاسيكية المتمثلة بالقافية والأوزان الشعرية التقليدية وتتابع الأحداث ملحمة سردية تمزج بين الشعر والرواية . وكان " مضيق الفراشات " بالتالي تاريخاً شعرياً لكل تلك الثورات والإنكسارات المتتالية التي احتلت المساحة الأوسع في ذاكرة الإنسان الكردي ، وأصبح في ذات الوقت مفترقاً شعرياً يقتضي التوقف عند أبعاده الجمالية والتاريخية في تجربة الشاعر بيكه س . ذلك انه ترك اللغة ترتسم على مفردات العلاقة بين النص والواقع وفق محايثة " الملحمية " لقصيدة النثر الحديثة وستراتيجيات تشخيص " الشعرية المتنوعة " . فيما يخص هذه الثانية – أي الشعرية المتنوعة – فكان للشاعر اسلوباً خاصاً في تأسيس طقس شعري ذو بعد مُركب مثل الحكاية والتاريخ والحوار الدرامي والذاكرة الشعبية والغنائية . ولو لا هذه " التركيبية " بين عناصر الكتابة المختلفة ، والتي أُسميها " القصيدة ذو بعد مركب " لاستعان شيركو بيكه س بالرواية مثلاً أو المسرح ، لكن طغيان الشعرية لديه بقي كحالة توافقية بين عنصرية القول الشعري وبين مزايا المذاهب الفنية الأُخرى .
اليوم وبعد مرور عقد ونيف على تلك التجربة التي ربط فيها الشاعر بين النثر والملحمية والرواية التاريخية يعود ويكتب نصاً مماثلاً بعنوان " مقبرة القناديل " ، يستخدم فيه لغة جديدة ، تناص جديد ، وطقس جديد تشترط فيه المأساة على اللغة عنفاً لكل زمان .
الأنفال ، هو عنوان إفتراضي ثان لهذه القصيدة الطويلة ، ولكن بما انها-أي الأنفال- كانت دالاً لمقابر جماعية دفنت فيها حياة الآلاف من المؤنفلين يختار الشاعر مقبرة القناديل عنواناً لرحلته المحزنة بين ضوضاء حفّارات الليل وقصص العائدين من ليالي الدفن الجماعي والأيام التي كانت تتسم بالحياة قبل الأنفال (1988) . فمن تلك الأيام التي يصفها الشاعر بعمر فراشات الربيع تبدأ رواية القناديل الموزعة بين مساحات عنف يولِّد لنفسه قسوة لغوية مفرطة إذ لا يبقى فيها سوى الحنين للشعرية اللاعنفية . فاللحظات الوحيدة التي يسترجع فيها الشاعر اللغة ككائن مسكون بالحياة هي تلك " المُدَيدات " التي تقتصر على تاريخ مختلف عن ذلك الذي يملأ فضاء المقابر .أي الزمن الذي لم تليه إلاّ المأساة المذكورة .
فالقسوة في هيجانها المستمر في مقبرة القناديل وتقوِّض التكوينات الأُولى للنص بدءً من زمن ولادته ، ويتحول السرد وفقها إلى فعل المراهنة على أي شيء يستعيد آثار حياة اندثرت في الرمال أو إلى فعل إخراج الذات من عتمة اللغة إلى سطح الكارثة .
ليلة ، في البصرة
قرب تمثال "السياب"
في إحتفال التاج والنجمات ورقص البيريهات وسكر الأسلحة
أثثوا صالة من مرج من صبايا الجبال
الصالة مضيئة
والصبايا معتمات
تدخل النجمات لأصطفاء الصابايا الحزينات
على طاولة ناعسة
سكينة وسلة من الأجاص
يمكنني القول بأن هذه الصورة ليست قاسية بالمقارنة مع تلك التي تجسد مشاهد التنكيل بالجسد و أصوات الحفّارات المطمِّرة ، لكنها تحمل من قدراً كافياً من العنف وإستقدام فلسفة الموت الصناعي على حياة البشر. ولا يلتجأ الشاعر هنا إلى ضمير واحد لتأسيس بيئته الروائية الشعرية هذه ، بل هناك أكثر من ضفة حكائية وضمائر متعددة تشارك في بناء عالمي " القناديل " وحفّارات الليل . لذا نلاحظ حضور رواة نجوا من عمليات الإفناء ورواة تنقل عنهم ما قالوه وفعلوا حينما كانوا ينهون الخريف من خلال إقتلاع وروده . وفي كلتا الحالتين تحتل القسوة الحيز الأكبر وتسوق اللغة نحو إدراكات جديدة لمفاهيم العنف . فحكايات الأنفال هى حكايات لغوية بدرجة الأساس ، لأن الذين رأوا سجون نقرة السلمان في جنوب العراق أو الأشخاص المعدودين الذين نجوا من أرشفة الدم وتاريخ ليالي الطمر ينتمون لمناطق وأقاليم مختلفة في كردستان ويحملون معهم بالإضافة ذاكرة ملأى بالجثث لهجات وأساليب لغوية مختلفة في رواية الأشياء، ثم انهم لا يملكون سوى اللغة لإستعادة ايام المهانة والمذلة . وهذا ما يدفع الشاعر للدخول إلى عوالم اللغة الكردية غير المألوفة في الشعر الكردي المعاصر ورسم مأساة كل إقليم بأدواته ومفرداته اليومية في التعبير والتواصل .
إذاً، ليس شيركو بيكه س من يختار الإطار العنفي للغته ، بل لغة الأنفال هي التي تقترح نفسها ككاريزما تعبيرية وحيدة في وصف ما حصل في ربيع 1988 ، لأن صورة الحدث الأول الذي يبدو كواقع فنتازي بحت لا يتجسد سوى على ضفاف القسوة في عملية إعادة إنتاجه أدبياً . ولا بد من الإشارة هنا ان عمليات الأنفال ثم عودة بعض من المؤنفلين من سجون العراق الجنوبية والمقابر الجماعية أدخلت جيلاً جديداً من العنف اللغوي إلى الثقافة الكردية ، فقبل هذه التراجيديا لم يلحظ هذا القدر من القسوة اللفظية التي نلاحظها الآن في الشعر والقص والرواية والدراسات النقدية ، لكن المراحل اللاحقة حملت معها تعبيرات ومفردات جديدة مثل ( ما قبل الأنفال وما بعدها ، المقابر الجماعية ، مجمعات الأرامل ، يتامى الأنفال ، نقرة سلمان ، وأسماء الأماكن والسجون والشخصيات التي لها العلاقة بربيع كامل من الإفناء ووصف الموت كشيء مألوف في الحياة اليومية). وللسبب ذاته يحاول الشاعر الوصول إلى أقاليم اللغات المحكية المجهولة وتوظيف ما تحمله من الحزن بعدما كان مصدراً للغنائيات . فالتعبير الشعبي في مقبرة القناديل وعلى لسان إمرأة مسنة – لم يعد من نقرة سلمان غير نساء مسنات - من "كرميان " أو " دشتي هولير" وبهدينان تعيد صياغة حدث المأساة وفق علاقة عضوية تربط الموت المستقدم على الحياة باللغة والحكاية والسياقات الإرتجالية التي تتحكم فيها آلية الرواية الشعرية ، وكانت هذه الآلية الفنية في رواية الأشياء جزءاً من تراث الأدب الشفاهي الكردي القديم .
في سياق ذاته وكي لا يغرق المتلقي في حزن مطلق يوظف الشاعر " فلاش باكات " قصيرة تصور تلك اللحظات التي كانت تعم بالفرح والمتعة في حياة الشخصيات قبل التنكيل بهم ، ويعيد كتابة الذاكرة الغنائية الفاصلة بين وجود الأمس وفناء اليوم .
خالد سليمان


نشرت هذه المادة في صحيفة "الحياة" اللندنية شهر نيسان عام ٢٠٠٥

0 كۆمێنت:

إرسال تعليق